عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٩

والمنهرة : فضاء بين (١) البيوت لاتّساعها تلقى فيها القمامات. ومنه الحديث : «إنّ قتيلا وجد بخيبر في منهرة». ونهرته وانتهرته : زجرته زجرا بغلظة ؛ قال تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٢). وفي الحديث : «فأتوا منهرا فاختبؤوا فيه» (٣) هو خرق في الحصن نافذ يدخل منه الماء.

ويقال : نهر ونهر ، بالسكون والفتح ـ وهو أفصح نحو الشّعر والشّعر. قيل : وهو مطّرد في كلّ ما كان مفتوح الفاء وسطه حلق ، أي جواز السكون.

ن ه ي :

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى)(٤). النّهى جمع نهية : وهو العقل ، لأنّه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبيح. وقيل : لأنّه ينتهي إلى رأيه واختياراته. والنّهي : الزجر عن الشيء. وقيل : هو طلب ترك المنهيّ عنه. وقيل : طلب كفّ ، وهي متقاربة. وقال بعضهم : هو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره ، وما كان بالقول لا فرق بين أن يكون بلفظة افعل نحو اجتنب كذا ، أو بلفظة لا تفعل. ومن حيث اللفظ هو قولهم : لا تفعل كذا ، فإذا قيل : لا تفعل كذا فهو نهي من حيث اللفظ والمعنى جميعا كقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)(٥).

قوله تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى)(٦) ليس معناه أن تقول لها : لا تفعلي ، بل معناه : تركه لارتكاب المنهيّات [و](٧) قمعها عن شهواتها ودفعها عن رغباتها. قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) إلى قوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ)(٨) أي يحثّ على فعل

__________________

(١) وفي الأصل : قصاص.

(٢) ١٠ / الضحى : ٩٣.

(٣) النهاية : ٥ / ١٣٥ ، والحديث لابن أنيس.

(٤) ٥٤ / طه : ٢٠.

(٥) ٣٥ / البقرة : ٢.

(٦) ٤٠ / النازعات : ٧٩.

(٧) إضافة المحقق.

(٨) ٩٠ / النحل : ١٦.

٢٦١

الخير ويزجر عن فعل الشّرّ. قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى)(١) أي نهاية الأمور ، كقوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(٢). قال بعض الأئمة : إذا انتهى الكلام إلى الله عزوجل فانتهوا.

قوله : (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى)(٣) أي التي تنتهي إليها أعمال العباد. وقيل : هي التي ينتهى إليها ، فلا تجاوز. وفي الحديث : «أنّه أتى على نهي من ماء» (٤) النّهي بفتح النون وكسرها وسكون الهاء ، موضع يجتمع فيه الماء كالغدير ؛ سمي بذلك لأنه يحجز الماء أن يفيض منه. قوله : (فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ)(٥). الانتهاء : الانزجار عمّا نهي عنه لأنه مطاوع نهيته. ومنه قوله تعالى : (إِنْ يَنْتَهُوا)(٦)(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٧) ولما سمعها عمر قال : «يا ربّ انتهينا». ومن ثمّ قالوا : إنّ الاستفهام هنا بمعنى الأمر ، كأنّه قال : انتهوا.

والإنهاء في الأصل إبلاغ النّهي ، ثم تعورف في كلّ إبلاغ حديث ، نهيا كان أو أمرا أو خبرا. ومنه : أنهيت إليه خبر كذا. ونهاية الشيء : آخره. وقولهم لرجل : ناهيك من رجل ، أي لكفايته. كأنّه ينهاك عن طلب غيره. وناقة نهية : تناهت سمنا ؛ تنهى الإنسان ، أي يطلب غيرها لسمنها.

ونهاء النّهار : ارتفاعه. وتنهية الوادي : حيث ينتهي إليه (٨).

__________________

(١) ٤٢ / النجم : ٥٣.

(٢) ٣ / التغابن : ٦٤ ، وغيرها.

(٣) ١٤ / النجم : ٥٣.

(٤) النهاية : ٥ / ١٣٩.

(٥) ٢٧٥ / البقرة : ٢.

(٦) ٣٨ / الأنفال : ٨.

(٧) ٩١ / المائدة : ٥.

(٨) يريد : ينتهي إليه السيل.

٢٦٢

فصل النون والواو

ن و أ :

قوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)(١) أي لتنهض. يقال : ناء ينوء : إذا نهض. وناء البعير ينوء نوءا كذلك ، فهو ناء. وقد استعار امرؤ القيس ذلك لليل في قوله (٢) : [من الطويل]

فقلت له ، لمّا تمطّى بجوره

وأردف أعجازا وناء بكلكل

وقوله تعالى : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ)(٣) قيل : هو من ذلك ، أي نهض به ، عبارة عن التكبّر كقولهم : شمخ بأنفه. وقيل : مقلوب من نأى ينأى. وقد تقدّم في قوله تعالى : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أحدهما أنه مقلوب ، والأصل : لتنوء العصبة بالمفاتيح ، فهو كقوله. (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)(٤) أي تعرض النار على الذين كفروا. والثاني أنّه ليس بمقلوب لأنّ الباء للحالية ، وتحقيقه في غير هذا.

وفي الحديث : «ثلاث من أمر الجاهلية كذا وكذا والأنواء» (٥) قال أبو عبيدة : هي ثمانية وعشرون نجما (٦). وتقول العرب : مطرنا بنوء كذا. وإنما سمي النجم نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق. وذلك النهوض هو النّوء ، فسمّي النجم به. قال : وقد يكون نوء النّجم السّقوط. وقال ابن الأعرابيّ : لا يكون نوءا حتى يكون معه مطر. قال : وجمع النّوء نوآن وأنواء. قال : والساقط في المغرب هي الأنواء ، والمطالعة في المشرق هي البوارح.

وفي الحديث : «يصبح من عبادي مؤمن بي ، إلى أن قال ، فمن قال : مطرنا بنوء كذا

__________________

(١) ٧٦ / القصص : ٢٨.

(٢) ديوان امرىء القيس : ٣٦ ، وفيه ـ وهو المشهور ـ : بصلبه.

(٣) ٨٣ / الإسراء : ١٧.

(٤) ٢٠ / الأحقاف : ٤٦.

(٥) النهاية : ٥ / ١٢٢ ، والاثنان الأولان هما : الطعن في الأنساب ، والنياحة.

(٦) ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها.

٢٦٣

فهو كافر» (١). قال أبو عبيد : إنما غلّظ القول فيه لأنّ العرب كانت تقول : إنما هو فعل النجم ، ولا يجعلونه سقيا من الله تعالى. وأما من قال ذلك ولم يرد هذا المعنى ، بل مطرنا في هذا الوقت ، فذلك جائز ، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه : «إنه استسقى بالمصلى ثم نادى العباس : كم بقي من نوء الثّريا؟ فقال : إنّ العلماء يزعمون أنّها تعترض في الأفق سبعا بعد وقوعها ، فو الله ما مضت تلك السّبع حتى غيث الناس» (٢) أراد عمر : كم بقي من الوقت الذي جرت العادة إذا تمّ أتى أمر الله بالمطر. نقل ذلك الهرويّ عن أبي منصور.

وفي الحديث أيضا : «أن رجلا ربط خيلا فخرا ورياء ونواء للإسلام» (٣). النّواء مصدر ناوأت أناوىء مناوأة ونواء ، أي عاديت. وأصله ناء إليك ، ونؤت إليه. والنّواء أيضا جمع نائية بمعنى ناهضة. وعليه قولها : [من الوافر]

ألا يا خمر للشّرف النّواء

وهنّ معقّلات بالنّواء

فيكون ذلك نحو صائمة وصيام كقول الآخر (٤) : [من البسيط]

خيل صيام وخيل غير صائمة

وقال الهرويّ : النّواء : السّمان (٥). وقد نوت الناقة تنوى. إذا سمنت. وعلى هذا فليس البيت من مادّتنا. ونواء جمع ناوئة.

ن و ب :

قوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)(٦) أناب ، أي رجع مرة بعد أخرى ، وكذلك النّوب أيضا. يقال : ناب ينوب نوبا ، وأناب ينيب إنابة. والإنابة إلى الله : الرجوع إليه بالتّوبة. قال

__________________

(١) بعضه في النهاية : ٥ / ١٢٢.

(٢) بعضه في المصدر السابق.

(٣) النهاية : ٥ / ١٢٣.

(٤) صدر للنابغة الذبياني ، وعجزه كما في الديوان : ١١٢ :

تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما

(٥) وردت المادة في اللسان في (نوي) وليس في (نأي) ، كما ذكر بعد سطر.

(٦) ٢٤ / ص : ٣٨.

٢٦٤

تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ)(١). ومنه : النائبة ، لأنّها تقصد تنوّبه ، وجمعها نوائب ، وهي حوادث الدّهر. يقال : نائبة النّوائب ، والانتياب افتعال منه ؛ يقال : فلان ينتاب فلانا ، أي يقصده.

ن و ح :

قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ)(٢). نوح : اسم للنبيّ المعروف صلى‌الله‌عليه‌وسلم. يقال : هو أبو البشر ، وهو آدم الثاني ، لأنّه لما غرق أهل الأرض بالطّوفان حدث من نسله الناس ، لأنّه ولد ثلاثة أولاد : سام وحام ويافث ؛ فسام أبو العرب (٣) ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو التّرك (٤) كما نقله التاريخيون.

قيل : واشتقاقه من النّوح ، لأنه ناح على نفسه تقرّبا إلى الله تعالى. والصحيح أنه غير مشتقّ لعجمته ، وإنما صرف لخفّته ، وليس يجوز منعه خلافا لبعضهم ، بل يتحتّم صرفه.

ومثله في ذلك لوط.

والنّوح مصدر ناح ينوح : إذا صاح بعويل. والنّياحة : البكاء بتعديد الشمائل ، وهي المنهيّ عنها. وأصل ذلك اجتماع الناس في المناحة ، وهي المكان وذلك من التّناوح وهو التقابل ؛ يقال : جبلان يتناوحان ، وريحان يتناوحان ، أي متقابلان.

ن و ر :

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٥) قال ابن عرفة : أي منوّر ، يعني أنه مصدر مراد به الفاعل. قال : كما يقولون : فلان غياثنا ، أي مغيثنا. وأنشد لجرير (٦) : [من الطويل]

__________________

(١) ٥٤ / الزمر : ٣٩.

(٢) ٧٩ / الصافات : ٣٧.

(٣) بياض موضع الكلمة في ح.

(٤) بياض موضع الكلمة في ح.

(٥) ٣٥ / النور : ٢٤.

(٦) غير مذكور في ديوانه.

٢٦٥

وأنت لنا نور وغيث وعصمة

وبيت لمن يرجو نداك ونور

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي ذو نور. وقال الأزهريّ : أي مدبّر أمرهما بحكم بالغة. وقيل في (مَثَلُ نُورِهِ)(١) : أي مثل هداه في قلب المؤمن. و (نُورٌ عَلى نُورٍ)(٢) أي نور الزجاجة ونور المصباح. وقال ثعلب : مثل نوره الذي هدى به سبل الحقّ. قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ)(٣) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأنّ النور يبين الأشياء في الظلمة ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بيّن بشرعه جميع ما تحتاج إليه الأمّة. وقيل : هو القرآن. والظاهر أنه أعمّ من ذلك ، فالكلّ صالح إذ النور في الأصل هو الضّوء المنتشر الذي يعين على الإبصار. وهو ضربان : دنيويّ وأخرويّ. ثم الدّنيويّ ضربان : معقول بعين البصيرة ، وهو ما انتشر من الأنوار الإلهية كنور العقل ونور القرآن. ومحسوس بعين البصر ، وهو ما انتشر من الأجسام النّيّرة كالقمرين والنجوم النّيّرات. فمن النور الإلهيّ قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

ومن المدرك بالبصر قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً)(٤)(وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(٥). وإنّما جعلت الشمس ضياء لأنّ الضياء أخصّ من النور ؛ إذ الضوء نور قويّ. وقال الراغب (٦) : وتخصيص الشمس بالضوء والقمر بالنور من حيث إنّ الضوء أخصّ من النور. قلت : ولهذا قيل : لم قال تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)(٧) ولم يقل بضيائهم؟ فلم ينف عنهم ما هو أقوى. وجوابه أنّه لا يلزم من نفي الأخصّ نفي الأعمّ ؛ / إذ لو نفي عنهم الضّوء لجاز أن يتوهّم بقاء نور. فإذا نفي عنهم النور الذي هو أعمّ لزم منه نفي الضوء الذي هو أخصّ.

__________________

(١) ٣٥ / النور : ٢٤.

(٢) من الآية السابقة.

(٣) ١٥ / المائدة : ٥.

(٤) ٥ / يونس : ١٠.

(٥) ٦١ / الفرقان : ٢٥.

(٦) المفردات : ٥٠٨.

(٧) ١٧ / البقرة : ٢.

٢٦٦

قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)(١) يشمل ما يدرك بالبصر والبصيرة. قوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها)(٢) أي بعدله لقوله عليه الصلاة والسّلام في مقابله : «الظلم «ظلمات يوم القيامة» ، والنار من ذلك ، فألفها عن واو. ويدلّ على ذلك تصغيرها على نويرة. قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ)(٣) هي هذه المنتفع بها التي جعلها تذكرة لنار الآخرة (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ)(٤) أي المسافرين الذين فني زادهم. وتستعار للحرب. قال تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ)(٥) ورشّحها بالإطفاء.

قال بعضهم : النار والنور من أصل واحد ، وكثيرا ما يتلازمان ، لكنّ النار متاع للمقوين في الدنيا ، والنور متاع لهم في الدنيا والآخرة. ولذلك استعمل في النور الاقتباس ؛ قال تعالى : (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)(٦). وتنوّرت نارا : أبصرتها. قال امرؤ القيس (٧) : [من الطويل]

تنوّرتها من أذرعات فدارها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

والمنار : علم الطريق الذي يهتدى به. قال امرؤ القيس أيضا (٨) : [من الطويل]

على لاحب لا يهتدي بمناره

إذا سافه العود النّباطيّ جرجرا

والمنارة : مفعلة من النور ومن النار. قال الراغب (٩) : كمنارة ما يؤذّن عليها. والنّوار

__________________

(١) ١ / الأنعام : ٦.

(٢) ٦٩ / الزمر : ٣٩.

(٣) ٧١ / الواقعة : ٥٦.

(٤) ٧٣ / الواقعة : ٥٦.

(٥) ٦٤ / المائدة : ٥.

(٦) ١٣ / الحديد : ٥٧.

(٧) الديوان : ٤٦.

(٨) الديوان : ٦٧. اللاحب : الطريق الواضح الذي لحبته الحوافر أي أثرت فيه. سافه : شمّه. العود : الجمل المسن. النباطي : المنسوب إلى النبط. جرجر : رغا وضجّ.

(٩) المفردات : ٥٠٩.

٢٦٧

من النساء : النّفور ، تشبيها بالنار في السرعة. وهو اسم امرأة بعينها. قال الشاعر (١) : [من الكامل]

حنّت نوار ولات هنّا حنّت

وبدا الذي كانت نوار أجنّت

وكان اسم امرأة الفرزدق ، ولمّا طلّقها ضرب به (٢) المثل في النّدم ، فقيل : ندم الفرزدق حين طلّق نوارا (٣). ويقال منه : نارت المرأة تنور نورا ونوارا ، أي نفرت. ونور الشّجر تشبيها بالنّور ، وكذلك نوّاره. والنّؤور (٤) : ما يتّخذ للوشم. يقال منه : نوّرت المرأة يدها. وتسميته بذلك لكونه مظهرا لنور اليد والعضو. وفي حديث صعصعة (٥) : «وما نارهما» (٦) أي سمتهما. وفي المثل : «نجارها نارها» (٧) أي سمتها تدلّ على جوهرها ، وأنشد (٨) : [من الرجز]

حتّى سقوا آبالهم بالنار

والنار قد تشفي من الأوار

وفي صفته عليه الصلاة والسّلام : «كان أنور المتجرّد» (٩) أي حسن الجسد ، مشرقه إذا تجرّد عن ثيابه ، ومعناه أنّه نيّر المتجرّد.

__________________

(١) البيت لشبيب بن جعيل الثعلبي كما في شرح شواهد السيوطي : ٢ / ٩١٩ ، الخزانة : ٢ / ١٥٦ ، الشعر والشعراء : ٤٣ ، المؤتلف والمختلف : ٨٤. قاله يخاطب أمه وهو أسير.

(٢) وفي الأصل : بها.

(٣) يبدو أن المؤلف توهم أن صاحب البيت هو الفرزدق ، فعطف على شرح ذلك.

(٤) وفي المفردات : والنور ، وهو وهم. وفي اللسان : النّوور ، ولك أن تقلب الواو المضمومة همزة. وهو دخان الشحم يعالج به الوشم.

(٥) هو صعصعة بن ناجية جد الفرزدق.

(٦) النهاية : ٥ / ١٢٥ ، وفيه : «وما ناراهما». وجاء في الهروي والفائق ما يؤيد النص. وهو يتحدث عن ناقتيه الضالتين.

(٧) كذا في اللسان ، وفي المستقصى (٢ / ٣٦٥) بضم النون. يضرب في ظاهر الشيء الدال على باطنه كما تدل سمة الإبل على أصلها.

(٨) قاله راجز ، كما في اللسان ـ مادة نور.

(٩) النهاية : ٥ / ١٢٥.

٢٦٨

ن و س :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ)(١). اختلف في الناس ، وكنت قد وعدت بذكر ذلك هنا فأقول : فيه أقوال : أحدها أنّ أصله نوس مأخوذ من ناس ينوس : إذا تحرك. ومنه حديث أمّ زرع : «أناس من حلي أذنيّ» (٢) أي حرّكهما بالحلي كالقرطة والشّنوف. وفي حديث آخر : «رأيت العباس وضفيرتاه تنوسان على ترائبه» (٣). وكان ملك من حمير يقال له ذو نواس ، لضفيرتين على عاتقه.

يقال : ناس ينوس نوسا ونوسانا. ونست الإبل : سقتها. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت الفاء وتصغيره على نويس. الثاني أنّ أصله أناس ، واشتقاقه من الإنس للإيناس بهم ، فحذفت لمّا دخلت عليه «ال» ، كما حذفت الهمزة من إله لمّا دخلته «ال» على أحد الأقوال ، ويدلّ على ذلك التصريح بهذا الأصل. قال الشاعر (٤) : [من مجزوء الكامل]

إنّ المنايا يطّلع

ن على الأناس الآمنينا

الثالث أنّ أصله نسي من النّسيان (٥) ، فقلبت الكلمة بأن قدّمت لامها وأخّرت عينها فصار نيسا ، قلبت الياء ألفا كما تقدّم. وقد يراد بالناس الفضلاء المعتبرون دون من عداهم ، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية ، وهو وجود العقل والذّكر وسائر القوى المختصّة به ، فإنّ كلّ شيء عدم فعله المختصّ به لا يكاد يستحقّ اسمه كاليد ؛ فإنها إذا عدمت فعلها الخاصّ بها فإطلاق اليد عليها كإطلاقه على يد السرير ورجله. ومن ذلك قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)(٦) ، وكذا قوله : (قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ)(٧) أي الكاملون في الإنسانية.

قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)(٨) عامّ في الجميع.

__________________

(١) ٢١ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٢) النهاية : ٥ / ١٢٧.

(٣) المصدر السابق ، وفيه : «.. على رأسه».

(٤) من شواهد اللسان ـ مادة نوس.

(٥) فيكون على هذا الرأي أصل إنسان «إنسيان».

(٦) ٥٤ / النساء : ٤.

(٧) ١٣ / البقرة : ٢.

(٨) ٢٥١ / البقرة : ٢.

٢٦٩

ن و ش :

قوله تعالى : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ)(١) أي التناول. يقال : تناوش القوم كذا : إذا تناولوه. والنّوش : التناول أيضا. وناشه ينوشه : تناوله. قال عنترة (٢) : [من الكامل]

فتركته جزر السّباع ينشنه

والمعنى : كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من مكان قريب في حين الاختيار. وقرىء بالهمز. وقد تقدّم الكلام على ذلك.

ن و ص :

قوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)(٣) المناص : المهرب والملجأ. يقال : ناص ينوص نوصا ومناصا ، أي فاستغاثوا وليس الحين حين ملجأ ولا مهرب. قال امرؤ القيس (٤) : [من الطويل]

أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص

فتقصر عنها خطوة وتبوص؟

قيل : تنوص ، معناه تتحوّل. وقيل : تتأخّر. وتنوص معناه : تتقدّم. وقيل : ناصه ينوصه بمعنى فاته ، وهو قريب مما تقدّم. واستناص : طلب المناص. وأنشد لحارثة بن بدر يصف فرسا (٥) : [من الكامل]

غمر الجراء إذا قصرت عنانه

بيدي استناص ورام جري المسحل

__________________

(١) ٥٢ / سبأ : ٣٤.

(٢) صدر من معلقته ، وعجزه كما في الديوان : ١٥١ ، وشرح القصائد العشر : ٢٩٨ :

ما بين قلّة رأسه والمعصم

الجزر : الشاة أو الناقة المذبوحة. ينشنه : يتناوله بالأكل.

(٣) ٣ / ص : ٣٨.

(٤) مطلع من قصيدة كما في الديوان : ١٢١. تنوص : تتأخر. تقصر عنها : يقال : أقصر عنه خطوه إذا كفّه عنه.

(٥) مذكور في اللسان ـ مادة نوص.

٢٧٠

وقد قرىء هذا الحرف بقراءات كثيرة حرّرناها في غير هذا ولله الحمد.

ن و ق :

قوله تعالى : (ناقَةُ اللهِ)(١) الناقة : الأنثى من الإبل ، وتجمع على نوق. وفي المثل : «كيف العيّوق بعد النوق» (٢) على أينق ، وأصله أنوق ، ثم قلبت الكلمة بأن قدّمت الواو على النون وقلبت تاء ، والتاء في ناقة لتأكيد التأنيث كما قدّمناه في نعجة. وهذه الناقة كان خلقها على خلاف غيرها من بنات جنسها ، ولها قصة مشهورة. وفي الحديث : «أنّ رجلا قد سار على جمل قد نوّقه» (٣) أي راضه وذلّله. و «استنوق الجمل» (٤) أي ذلّ ذلّ الناقة. قال الشاعر (٥) : [من الرجز]

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

أراد ناقة فرخّمها.

ن و ل :

قوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها)(٦) أي لن يصل إليه ما يعدّ لكم ثوابه عن التّقوى ، أي ناله يناله ، وينوله نولا ونيلا. ففي العين الواو والياء ، إلا أنّ لغة القرآن الياء. قال تعالى : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً)(٧) أي يصيبون منهم مالا أو عرضا. يقال : هو ينال من عدوّه ، أو وتره في مال أو عرض أو غير ذلك. ومنه الحديث : «أنّ رجلا كان ينال من الصّحابة» (٨) أي الوقيعة فيهم.

__________________

(١) ٧٣ / الأعراف : ٧.

(٢) لم نجده في المظان.

(٣) النهاية : ٥ / ١٢٩.

(٤) مثل يعزى إلى طرفة بن العبد قاله عند ما سمع شعرا للمسيب بن علس.

(٥) رجز لأبي النجم ، كما في الكتاب لسيبويه : ٣ / ٣٥ ، شرح المفصل : ٧ / ٢٦. وهو من شواهد اللغة. العنق : ضرب من السير. وسليمان هو ابن عبد الملك.

(٦) ٣٧ / الحج : ٢٢.

(٧) ١٢٠ / التوبة : ٩.

(٨) النهاية : ٥ / ١٤١ ، وورد في «نيل».

٢٧١

والنّول والنّوال : العطاء. ومنه حديث موسى والخضر : «فحملوهما بغير نول» (١) أي بغير جعل. ويقال : نلت معروفا ، ونوّلته إياه ، وأنلته إياه رسولا ونيلا وتنويلا وإنالة. قال كعب بن زهير / رضي الله تعالى عنه (٢) : [من البسيط]

أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل

وقال الراغب (٣) : النّيل : ما يناله الإنسان بيده. نلته أناله نيلا. قال تعالى : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً). والنّول : التّناول. يقال : نلت كذا أنوله ، وأنلته : أوليته. قال : ومثل ذلك : عطوت كذا : تناولت كذا. وأنلته : أعطيته. يقال : ما كان نولك أن تفعل كذا ، أي ما فيه نوال صلاحك. قال الشاعر (٤) :

جزعت وليس ذلك بالنّوال (٥)

قيل : معناه : بالصّواب. وحقيقة النّوال ما تناله من الصّلة ، وتحقيقه : ليس ذلك مما تنال منه مرادا. ويقال : نال الشيء ، أي جاوز وقرب. ومنه قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد نال الرحيل» (٦) أي حان. ويقال : نولك أن تفعل كذا ، أي حقّك. وقد نال لك ذلك ينول نولا.

ن و م :

قوله تعالى : (وَالنَّوْمَ سُباتاً)(٧) قال الراغب (٨) : قد فسّر النّوم على أوجه كلّها صحيحة ، بنظرات مختلفة ؛ قيل : هو استرخاء أعصاب الدّماغ برطوبات البخار الصاعد

__________________

(١) النهاية : ٥ / ١٢٩.

(٢) الديوان : ٩ ، وفيه رواية أخرى.

(٣) المفردات : ٥٠٩.

(٤) عجز للشاعر لبيد ، وصدره كما في الديوان : ٧٣ :

وقفت بهنّ حتى قال صحبي :

(٥) وقال الأصمعي : لا أدري ما النوال. وقال أبو عبيدة : النوال : الشأن والهمة.

(٦) النهاية : ٥ / ١٤٢ ، في مادة «نيل».

(٧) ٤٧ / الفرقان : ٢٥.

(٨) المفردات : ٥١٠.

٢٧٢

إليه. وقيل : هو أن يتوفّى الله النّفس من غير موت ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية (١). وقيل : النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل. والمنام والنّوم واحد. والإنامة : القتل. ومنه قول عليّ رضي الله تعالى عنه وقد حثّ على قتال الخوارج : «إذا رأيتموهم فأنيموهم» (٢) أي اقتلوهم. قال الهرويّ : نامت الشاة : إذا ماتت. قال الفراء : النائمة : الميتة.

وفي الحديث : «خير أهل ذلك الزمان كلّ مؤمن نومة» (٣) أي خامل الذكر ، غامض بين الناس ، لا يعرف الشرّ وأهله. وقال أبو بكر في «جمهرته» (٤) : النّومة ، يعني بضمّ النون : الخامل الذكر. والنّومة ، يعني بفتحها : الكثير النوم ، وفيه نظر لأنّ بناء فعله يدلّ على كثرة الفعل نحو همزة ولمزة وضحكة. وقد نصّ الراغب (٥) على أنّ النّومة ـ أعني بضمّ النون ـ يطلق على الكثير النوم وعلى الخامل. والنّؤوم أيضا : الكثير النّوم ، نحو ضروب وكسوب. واستنام إلى كذا : أطمأنّ إليه.

والمنامة : ثوب ينام فيه. وأنمته : تسبّبت في نومه. ونام السوق : كسد. ونام الثوب : أخلق ؛ كلّ شيء على التشبيه. وفي حديث عليّ رضي الله تعالى عنه : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا على المنامة» (٦) قيل : هي هنا الدكان ، وفي غيره القطيفة (٧).

ن و ن :

قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ)(٨) أي اذكر صاحب النون. النون : الحوت كما صرّح به

__________________

(١) ٤٢ / الزمر : ٣٩.

(٢) النهاية : ٥ / ١٣١.

(٣) المصدر السابق ، والحديث لعلي.

(٤) الجمهرة : ٣ / ١٧٩ ، العمود : ٢. على ابن دريد يقول : «ورجل نومة إذا كان خاملا بتسكين الواو». وللمعنى المذكور في النهاية على وزن «همزة».

(٥) المفردات : ٥١٠.

(٦) النهاية : ٥ / ١٣١ ، والحديث لعلي.

(٧) والميم الأولى زائدة في كلمة «منامة».

(٨) ٨٧ / الأنبياء : ٢١.

٢٧٣

في قوله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ)(١) والمراد به نبيّ الله يونس بن متّى عليه‌السلام ، وإنّما أضيف يونس إلى النون لابتلاعه إياه في قصة مشهورة (٢). ويجمع على نينان ، نحو حوت وحيتان. وقال بعضهم : النون : الحوت العظيم فخصّصه.

ونون في قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ)(٣) منهم من يجعله حرف تهجّ ـ وهو الصواب ـ كنظائره نحو «ص» و «ق» و «حم». وقيل : هو حوت عظيم في بحر عظيم ، حامل الثور عليه الأرضون. أقسم الله تعالى به في قصة طويلة ، والله أعلم بصحتها.

ويعبّر بالنون عن الناقة الضامرة تشبيها بحرف الهجاء في الهيئة كقول الشاعر : [من الطويل]

وحرف كنون تحت راء ولم يكن

بدال يؤم الرسم غيّره النّقط

وفي هذا البيت تورية حسنة كبيرة أوردتها في شرح قصيدة كعب بن زهير (وتلخيصه أنه أراد بنون حرف الهجاء ، وبالحرف الناقة ، وأراد براء اسم فاعل) (٤) من رأى (٥) ، أي ضرب الرئة ، وبدال اسم فاعل من دلا يدلو ، وبالرسم رسم الدار ، وبالنّقط المطر.

ن و ي :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)(٦) النّوى للثمرة عجمها ، وهو الذي ينبت منه الشجر ، الواحدة نواة ، فهو اسم جنس. والنّواة أيضا : الحاجة. يقال : لي عنده نيّة ونواة ، أي حاجة ، وذلك من نوى ينوي ؛ إذا تجرّد للشيء قاصدا له. وفي الحديث : «تزوجت على نواة من ذهب» (٧) أي قدر نواة من ذهب ، وهو خمسة دراهم.

__________________

(١) ٤٨ / القلم : ٦٨.

(٢) انظرها في كتابه : «معجم أعلام القرآن».

(٣) ١ / القلم : ٦٨.

(٤) ما بين قوسين ساقط من ح.

(٥) رأى : ضرب على الرئة ، وراء اسم فاعل بمعنى ضارب على الرئة.

(٦) ٩٥ / الأنعام : ٦.

(٧) النهاية : ٥ / ١٣١ ، والحديث لعبد الرحمن بن عوف ، إذ تزوج امرأة من الأنصار.

٢٧٤

ونوت البسرة وأنوت : اشتدّت نواتها. والنّؤي أيضا : البعد. ولام النواة ياء ، لأنّ عينها واو. والأكثر التغاير ، كما استدلوا على أنّ لام ذو بمعنى صاحب ياء بذلك.

فصل النون والياء

ن ي ل :

قوله تعالى : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً)(١) ليس في القرآن غيره ، وقد تقدّم الكلام عليه قريبا. وأمّا مادّة (٢) (ن ا س) إذا قيل : إنّ ألفه عن ياء ، وإنّ أصله (ن ي س) فقد تقدّم أنه مقلوب من نسي. والله تعالى أعلم (٣).

__________________

(١) ١٢٠ / التوبة : ٩.

(٢) الكلمة ساقطة من ح.

(٣) الجملة كلها ساقطة من ح.

٢٧٥

باب الهاء

فصل الهاء والباء

ه ب ط :

قوله تعالى : (اهْبِطُوا)(١) الهبوط : السّقوط على سبيل القهر كهبوط الحجر في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(٢). قال بعضهم : وإذا استعمل في الإنسان فعلى سبيل الاستخفاف بخلاف الإنزال ؛ فإنّ الإنزال ذكره الله تعالى في الأشياء التي نبّه على شرفها كإنزال القرآن والملائكة وغير ذلك. والهبط ذكر حيث نبّه على الغضّ ، نحو : (اهْبِطُوا مِنْها)(٣) ، وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ)(٤). قال : وليس في قوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) تعظيم وتشريف. ألا ترى إلى قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ)(٥) قلت : وفيه نظر لقوله تعالى ذلك لآدم وحواء ، إذ ليس المراد الاستخفاف والغضّ. وقد يقال : إنّه لمّا هبط إبليس والحية أراد الغضّ منهما فجرى الخطاب على ذلك ، ولله أن يخاطب عباده بما شاء ، وإن لم يجز لخلقه ذلك.

وهبط يكون لازما ومتعديا ؛ يقال : هبطته فهبط. ويردّ ما قاله هذا القائل أيضا قول العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه يمدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) : [من المنسرح]

__________________

(١) ٣٦ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٢) ٧٤ / البقرة : ٢.

(٣) ٣٨ / البقرة : ٢.

(٤) ٦١ / البقرة : ٢.

(٥) تتمة للآية السابقة.

(٦) في اللسان ـ مادة هبط.

٢٧٦

ثمّ هبطت البلاد لا بشر

أنت ولا مضغة ولا علق

فإنّ هذا تعظيم وتشريف. والهبيط : الضّامر من النّوق وغيرها. ويقال : هبط ـ بفتح الباء فقط ـ ويهبط ـ بكسرها وضمها ـ إلا أنّ الضّمّ في اللازم أكثر. وقد قرىء : «اهبطوا» بالضمّ. وقيل : الهبوط : الانتقال مطلقا. وقيل : الخروج من البلد. وقيل : الدّخول فيها ؛ فهو من الأضداد.

وفي الحديث : «غبطا لا هبطا» (١) أي نسألك الغبطة ونعوذ بك أن تهبطنا إلى حال سفال. وقال الفراء : الهبط : الذّلّ. وأنشد للبيد (٢) : [من المنسرح]

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا

يوما يصيروا للهلك والنّفد (٣)

ه ب و :

قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٤). الهباء واحده هباءة ، فقيل : الهباء والهبوء : التراب الرّقيق. وأنشد لرؤبة (٥) : [من الرجز]

في قطع الآل وهبوات الدّقق

وقال الأزهريّ : هو ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس ؛ شبّه أعمال الكفار التي كانوا يفعلونها في الدّنيا ، من فكّ العناة وإطعام المحاويج وغير ذلك ، في عدم الجدوى بتراب وغبار دقيق. ثم لم يكتف بذلك حتى جعله منثورا لا يرجى منه نفع ، ولا يحصل منه شيء البتّة. وقوله : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا)(٦) شبّه الجبال حال دكّها بالهباء المنبثّ ، وهو المتفرّق. فوصفه بالموضعين بوصفين مختلفين لفظا متّحدين معنى.

__________________

(١) النهاية : ٥ / ٢٣٩.

(٢) ديوان لبيد : ١٦٠. يهبطوا هنا : يموتون.

(٣) ورواية الديوان : والنكد ، وفيه رواية تؤيد النص. ورواية اللسان (مادة ـ هبط) : أمروا بضم الهمزة وكسر الميم.

(٤) ٢٣ / الفرقان : ٢٥.

(٥) من شواهد اللسان ـ مادة هبا. وصدر الرجز :

تبدو لنا أعلامه بعد الغرق

(٦) ٦ / الواقعة : ٥٦.

٢٧٧

قال الراغب (١) : الهباء : دقاق التراب ، فلا يبدوا إلا في أثناء الشمس في الكوّة. ويقال : هبا الغبار يهبو ، أي ثار وسطع. وأهببته أهبّه هبّا : أثرته. والهبوة كالغبرة. وفي الحديث : «أنّ فلانا جاء يتهبّى» (٢) قال الأصمعيّ : أي ينفض يديه (٣) أي فارغ اليدين ، كقولهم : جاء فلان يضرب أصدريه ، أي جاء فارغ اليدين.

فصل الهاء والجيم

ه ج د :

قوله تعالى : (فَتَهَجَّدْ بِهِ)(٤) أي اترك الهجود ، وهو النّوم ، فتفعّل فيه للسّلب نحو تحنّث وتأثّم ، أي جانب الحنث والإثم. فحقيقة التهجّة السّهر وإلقاء النوم. ولكنّ المراد بالآية أخصّ من ذلك ، وهو التّنفّل بالصلاة. وقوله : (به) أي القرآن في الصلاة. ومن ثمّ غلب التهجّد على التنفّل بالصلاة ليلا ، وهو المراد بقوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً)(٥).

وأهجد البعير : ألقى جرانه للأرض متحرّيا للهجود. وهجد يهجد فهو هاجد ، والجمع هجّد. قال الشاعر : [من الرجز]

هم بيّتونا بالوتر (٦) هجّدا

وقتّلونا ركّعا وسجّدا

ه ج ر :

قوله تعالى : (سامِراً تَهْجُرُونَ)(٧) أي تتكلمون بكلام هجر. والهجر في الكلام الفحش والقبح. واشتقاقه من الهجر ، لأنّ من حقّ القبيح أن يترك ويهجر. ويقال : هجر

__________________

(١) المفردات : ٥٣٦.

(٢) النهاية : ٥ / ٢٤٢ ، وفلان هو سهل بن عمرو.

(٣) والتّهبّي : مشي المختال المعجب.

(٤) ٧٩ / الإسراء : ١٧.

(٥) ٢ / المزمل : ٧٣.

(٦) يستقيم إذا قرىء : بالوتار.

(٧) ٦٧ / المؤمنون : ٢٣.

٢٧٨

الرجل ، أي تكلّم بهجر عن قصد. وأهجر المريض : إذا أتى بذلك من غير قصد. وقيل : هجر وأهجر بمعنى. وقد قرىء قوله : (تَهْجُرُونَ) بهما (١). قال بعضهم (٢) : قد يشبّه المبالغ في الهجر بالمهجر ، فيقال : أهجر وإن قصدوا (٣). وأنشد قوله (٤) : [من الطويل]

كما جدة الأعراق قال ابن ضرّة

عليها كلاما ، جار فيه وأهجرا

ورماه بهاجرات فيه ، أي فضائح كلامه. والهجّيرى والإهجير : العادة والدّأب. وأصل ذلك إذا أولع فيه وهذى به هذيان المريض المهجّر. قال الراغب (٥) : ولا يكاد يستعمل الهجّير إلا في العادة الذّميمة ، إلا أن يستعمله في ضدّه من لا يراعي مورد هذه الكلمة عند العرب.

والهجير والهاجرة من الهجر أيضا لأنها ساعة يهجر فيها السّير ، أو لإنها تهجر الناس على المجاز. والهجار : حبل يربط به الفحل ، فهو سبب لهجران الفحل الإبل ، أي منعه عنها. وبني على مثال الزّمام والعقال لموافقته معنى ذلك. وهجار القوس : وترها ، وذلك تشبيه بهجار الفحل. وبعير مهجور : مربوط بالهجار. وقد فسّر بعض الناس قوله : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ)(٦) أي اربطوهنّ بالهجار. قال بعضهم : هو من تفسير الثّقلاء.

وقيل : معنى «تهجرون» أي تتركون ، من الهجران ، وهو الترك. ومنه قوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(٧). وهذا كقوله تعالى : (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(٨) ، وقيل : معناه : جعلوه بمنزلة الهذيان. والهجر والهجران : مفارقة الإنسان غيره ؛ أمّا بالبدن أو باللسان أو بالقلب. قيل : وقوله : (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) يجوز

__________________

(١) وقرأ عكرمة «تهجّرون». و ل «سامرا» قراءات فيه. (مختصر الشواذ : ٩٨).

(٢) المفردات : ٥٣٧.

(٣) يريد : وإن قصدوا ذلك.

(٤) اللسان ـ مادة هجر.

(٥) المفردات : ٥٣٧.

(٦) ٣٤ / النساء : ٤.

(٧) ١٠ / المزمل : ٧٣.

(٨) ٣٠ / الفرقان : ٢٥.

٢٧٩

أن يراد فيه ذلك كلّه. وكذا (١) قوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(٢) حثّ على المفارقة بهذه الوجوه كلّها.

قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا)(٣) وقوله : (الْمُهاجِرِينَ)(٤) ، ونحو ذلك. هذه المهاجرة عبارة عن الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. ومنه الهجرة من مكة إلى المدينة. فالهجرة والمهاجرة غلبتا في ذلك ، وإن كان أصلها مفارقة الغير ومتاركته. وقيل : الهجرة بعد الهجرة النبوية صارت عبارة عن ترك دار الحرب وترك الأخلاق الذّميمة والخصال الرّذيلة. وفي قوله عليه الصلاة والسّلام : (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) (٥) إشارة لذلك.

وهنا سؤال وهو أنّه لا بدّ من تغاير الشّرط والجزاء ليفيد ، وهنا اتّحدا. وأجيب بأنّ معناه : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله (ثوابا وجزاء ، أي من هاجر إلى الله كان أجره على الله وكانت هجرته مقبولة) (٦). وفي الحديث : «لو يعلم النا س ما في التّهجير» (٧) قيل : المراد التّبكير إلى كلّ صلاة. وفي حديث الجمعة : «والمهجّر كالمهدي بدنة» (٨) أي المبكّر ، وهي لغة حجازية. وأنشد للبيد (٩) : [من البسيط]

راح القطين بهجر بعد ما ابتكروا

فما تواصله سلمى وما تذر (١٠)

ه ج ع :

قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ)(١١). الهجوع : النّوم بالليل ،

__________________

(١) وفي ح : وذلك.

(٢) ٥ / المدثر : ٧٤. والمعنى : اهجر المآثم الموجبة للعذاب.

(٣) ٢١٨ / البقرة : ٢.

(٤) ١٠٠ / التوبة : ٩ ، وغيرها.

(٥) رواه البخاري في بدء الوحي وفي الإيمان ، وفي مسلم ، رقم ١٩٠٧.

(٦) ما بين قوسين ساقط من ح.

(٧) النهاية : ٥ / ٢٤٦.

(٨) المصدر السابق.

(٩) مطلع من ديوانه : ٥٨. القطين : جماعة أهل الدار ، والهاء في «تواصله» يعني نفسه.

(١٠) جاء في هامش الورقة ٤١٠ / ح هامش مطول حول الهجران لم نر لها ضرورة تذكر.

(١١) ١٧ / الذاريات : ٥١.

٢٨٠